المادة    
والانحراف عن الصراط واتباع الأهواء والبدع قديم، وهذه الآية نفسها تشير إلى ذلك، فهي تشير إلى أمتين انحرفتا عن الطريق وهما اللتان آتاهما الله الكتاب من قبلنا: اليهود والنصارى.
بل لو رجعنا إلى أبعد من ذلك؛ لوجدنا أن أصل ضلال البشرية جميعاً وانحرافها من التوحيد إلى الشرك كان بسبب الابتداع وعدم الاتباع.
ما وقع الشرك في ذرية آدم إلا بسبب البدع والابتداع واتباع الهوى وتزيين الشيطان، فإن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى خلق أبانا الأول آدم نبياً مفطوراً على التوحيد، وفطر جميع ذريته على التوحيد، أي جعل التوحيد فطرةً في قلب كل إنسان، فجعله يعلم أن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى هو وحده الرب المعبود الذي يطلع على كل شيء، والذي يجب أن يتوجه إليه الإنسان بكل نوع من أنواع العبادة، ولهذا كان كل مولود من آحاد الجنس البشري يولد على الفطرة، ثم بعد ذلك: {فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه} أي أن المجتمع والبيئة والتربية تصرفه عن ذلك.
وهذا تصديق لما قاله الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: ((وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا)) [الأعراف:172] هؤلاء ذرية آدم الذين مسح الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى على ظهر آدم فكان منه فرقتان سود وبيض وقال تعالى: {هؤلاء للجنة ولا أبالي، وهؤلاء للنار ولا أبالي} وحينئذٍ أخذ الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى منهم الميثاق، ويذكر بهذا الميثاق من نسيه يوم القيامة، فيقول: قد أخذت عليك الميثاق وأنت في صلب أبيك ألا تشرك بي شيئاً.
  1. أول ضلال وشرك وقعت فيه البشرية

    لقد بقيت ذرية آدم على التوحيد كما قال حبر هذه الأمة عبد الله بن عباس -رضي الله تعالى عنه- عشرة قرون.
    وكان في القرن العاشر رجالٌ صالحون عبَّاد، مشهورون بالعبادة، والتقوى، وبالورع، والخشوع، أحبهم الناس وعظموهم وقدَّروهم لعبادتهم ولخشوعهم، واعتقدوا فيهم الخير والولاية والصلاح؛ لما كانوا يرون فيهم من علامات الخير والتقرب إلى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وقد ذكرهم الله في كتابه وداً وسواعاً ويغوث ويعوق ونسراً، هؤلاء كانوا رجالاً صالحين وعبَّاداً مجتهدين، كانوا قبل قوم نوح في الجيل الأخير الذي انقطع منه التوحيد، ثم وقع الشرك فيمن بعده.
    ماذا فعل أتباع هؤلاء القوم لما ماتوا؟ قالوا: إنَّا كنَّا -القول بالمعنى- نتذكر عبادة الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بوجود هؤلاء الناس، يذكروننا بالله، ويأمروننا بالمعروف، وينهوننا عن المنكر، فكل ما يقرب إلى الله عز وجل يذكروننا به ونراه متمثلاً فيهم، والآن ماتوا؛ فكيف نتذكر عبادتهم، ونجتهد مثل اجتهادهم ونكون مثلهم في الطاعة؟
    جاءهم الشيطان وقال لهم: ما دام هؤلاء قد ماتوا فلو صورتموهم، فتذكرتم عبادة الله تعالى عندما ترون هذه الصور -فكأن الصورة هي تعبير عن الحقيقة المفقودة ومثال لها- إذا رأيتم الصورة كأنكم ترون هذا العبد الصالح: وداً، أو سواعاً، أو يغوث، أو يعوق، أو نسراً، فتعبدون الله وتجتهدون في طاعة الله، مثلما كنتم تجتهدون وتذكرون الله عز وجل إذا رأيتم هؤلاء الأشخاص وهم أحياء -كما كنتم من قبل- ففعلوا ذلك، فصوروهم.
    فهل أذن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بذلك؟ ((أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ)) [الشورى:21] فعلوا ذلك، ثم جاء الجيل الثاني، ثم الجيل الثالث، وكان الجيل الأول يرونهم فيتذكرونهم، فيعبدون الله عز وجل، لكن بعد ذهاب الجيل الأول ماذا جرى؟ نسخ العلم كما قال ابن عباس رضي الله تعالى عنه أي أن العلم يضمحل ويقل مع مرور الزمن، جيلاً بعد جيل حتى يأتي الله تعالى بدعوةٍ جديدة، أو بنبي جديد، وهذا قبل بعثة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فكان يبعث في كل فترة رسولاً، وفي هذه الأمة يهيئ الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى في كل قرن من يجدد لهذه الأمة أمر دينها.
    فجاء الشيطان إلى الأجيال الأخيرة، وقال لها: إن من كانوا قبلكم كانوا يعبدون هذه الأصنام وهذه الصور، فصاروا يعبدونها ويدعونها من دون الله عز وجل ويقولون: إنها تقربنا إلى الله زلفى، ويقولون: نحن أناس ضعفاء، مساكين، وفينا ذنوب، وفينا أخطاء، كيف نتوجه إلى الله؟ كيف نتقرب إلى الله؟ هذا لا يمكن.
    وهكذا الشيطان سول لهم وأملى لهم أن: نعبد الله عن طريق هؤلاء الصالحين، فنجعلهم واسطة ووسيلة إلى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، يقربونا إلى الله، فهم شفعاء يشفعون لنا عند الله.. فعبدوا هذه الصور بهذه الشبهات الشيطانية الكاذبة، عبدوا الصور وعبدوا الأوثان من دون الله، ونُسي توحيد الله، وبعث الله تعالى فيهم نوحاً عليه السلام، وأخذ يدعوهم إلى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ألف سنة إلا خمسين عاماً، سبحان الله! كانت الأجيال البشرية طويلة العمر، والله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أقام الحجة عليهم بهذه الأعمار، وبهذه الدهور الطويلة، ومع ذلك ما آمن له إلا قليل، كما ذكر الله تبارك وتعالى، وكان ذلك أول شرك وقع في بني آدم، وبذلك كان نوح عليه السلام أول رسول أرسله الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى إلى الناس ليردهم من الشرك إلى التوحيد.
  2. النية الصالحة وحدها لا تكفي في صلاح العمل

    الذين صوروا هذه الصور -صور الرجال الصالحين- هل كانت نيتهم الشر؟ هل كانوا يريدون أن يعملوا هذه الأعمال لتدخلهم النار؟ هل عملوها ونصبوها وعظموها ليبتعدوا عن الله، ولينالهم غضب الله عز وجل؟
    هذا شيء لم يريدوه مطلقاً كما هو ظاهر في القصة السابقة، ولذلك لا حجة لأي مبتدع، ولا صاحب هوى، أن يقول: ما قصدنا إلا الخير، ونيتنا طيبة، وهدفنا سليم، هذا صحيح، ونحن لا نتكلم عن نياتكم، فيمكن أن تكون نياتكم طيبة، فإن هدف قوم نوح ونيتهم وغرضهم كان سليماً وما كانوا يريدون لأنفسهم أن يكونوا من أصحاب الجحيم، ولا كانوا يقولون: نريد أن نبتدع في الدين؟ بل كان الغرض سليماً، لكن هذا الغرض لمّا كان من عند أنفسهم، ولما كان ابتداعاً لم يتبعوا فيه شرعاً ولا وحياً من الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لم ينفع ذلك الغرض.
    ولهذا لما ننتقل إلى الأمتين -اللتين نستعين الله عز وجل في كل ركعة وفي كل صلاة على ألا يجعلنا كحالهما، وأن يثبنا على الصراط المستقيم، ويجنبنا طريقهما - نجد هذا أيضاً موجوداً بالذات في أمة الضلال: اليهود المغضوب عليهم، خصت الأمة اليهودية بالغضب، كما خصت الأمة النصرانية بالضلال، وكلاهما مشرك، وحكى الله عنهم: ((وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ)) [التوبة:30] كلاهما مشرك بالله عز وجل، وكلاهما كافر ومتوعد بالنار، كما نص على ذلك كتاب الله عز وجل، وكما نص عليه نبينا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فلا يبلغ أحداً من هاتين الأمتين دين محمدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ فلا يؤمن به؛ إلا كان من أهل النار.
    ثم لننظر إلى حال هاتين الأمتين، فبعد سورة الفاتحة تقرءون سورة البقرة في كتاب الله، وهذا الكتاب العظيم يشمل كل الكتب السابقة، ومصدقاً لها، ومهيمناً عليها، وكل خبر جاء في الكتب السابقة، فإن القرآن قد شملها وزاد عليها، والقرآن كله شملته بالجملة سورة الفاتحة، فإذا قرأنا سورة الفاتحة فقد قرأنا مجمل ما في القرآن.